كنت شاهدت إسقاط أحد تماثيل شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي، ..كان ذلك في طهران وفي مثل الشهر الفائت شباط (فبراير) العام 1979، كان الشاه ممتطياً صهوة جواد مطهم وكان يشير بإصبع يده اليمنى من فوق رأس جواده.. ثم وفي لحظةٍ هجم الشبان المتحمسون الذين كانوا يهتفون بالفارسية ما ترجمته بالعربية: «الموت لأميركا وللشاه ويحيا الخميني» على التمثال فأسقطوه أرضاً وأخذوا يحطمونه ويرفسونه بأقدامهم إلى أن تحول إلى قطع مبعثرة من الحجارة الإسمنتية المجبولة بقطع من الحديد.
هذا هو التمثال الأول الذي شاهدت سقوطه خلال حياتي أمَّا التمثال الثاني فكان تمثال صدام حسين وكان ذلك في مثل هذه الأيام من عام 2003.. كنت في دبي وكان بصحبتي ابني بشار.. كنا في معرض للسيارات قبالة فضائية «العربية» التي كنت أشارك زملاء آخرين في تأسيسها وإطلاقها فشاهدت على شاشة التلفزيون العشرات يهاجمون تمثالا عملاقا للرئيس العراقي الأسبق هو أحد آلاف التماثيل الموزعة على مدى مساحة الجغرافيا العراقية.. كانت دبابة أميركية تشارك المتظاهرين الغاضبين مهمتهم وخلال دقائق كان التمثال أرضاً والشبان يتناهشونه بأيديهم وأرجلهم وكان جندي الدبابة الأميركية يتابع ذلك المشهد بنشوة عارمة.
سألني أحد الذين كانوا يشاركونني متابعة الشاشة التلفزيونية عن الوضع في العراق وعمَّا سيحدث فقلت له وأنا أعود بذاكرتي إلى سنوات سابقة بعيدة وقريبة: لقد إنتهى الأمر.. لقد «استوى» العدس إنها نهاية حقبة بدأت في العام 1968.. بل في شباط (فبراير) العام 1963 وبداية حقبة ستسيل فيها الدماء حتى الرُّكب وسيواجه العراق خلالها استحقاقات ربما تكون أصعب وأخطر من كل استحقاقات ما بعد ذلك الانقلاب الدموي الذي أطاح النظام الملكي في عام 1958.
أمَّا التمثال الثالث الذي شاهدت سقوطه فهو تمثال حافظ الأسد الذي أُسقط في الرقة يوم الإثنين الماضي هذه المدينة التي كنت قد تعرفت عليها وزرتها مراراً خلال مشاركتي عام 1969 في «معسكر» طلابي عالمي أقيم في تلك المنطقة للمساهمة الرمزية في بناء سد الفرات أو سد الطبقة الذي كان رئيس الوزراء السوري الأسبق يوسف زعين المقيم الآن في بودابست في المجر أكثر المتحمسين لبنائه والذي بعد إنقلاب «الحركة التصحيحية» وبعد إتمامه أصبح اسمه سد حافظ الأسد.
سألني أحد الذين كانوا يشاركوني مشاهدة سقوط هذا التمثال ومتابعة هجمات صِبْية مدينة «الرقة» عليه وركله وضربه بأيديهم وأرجلهم عمَّا يعني هذا السقوط وعما يعني هذا التطور فقلت، وأنا أستعرض في مخيلتي وجوه قادة البعث الذين أكلت أعمارهم زنازين «المزة» والذين ثقَّب رصاص الإغتيالات أجسادهم.. وأنا أستعرض في مخيلتي أيضاً بعض صور مذابح «حماه» في عام 1982 التي كانت وصلتني عندما كنت أعمل محرراً في صحيفة «السفير» اللبنانية من خلال صحافي فرنسي لم أعد أذكر أسمه ولكنه كان يعمل في وكالة الصحافة الفرنسية.. لقد قلت :إنتهت الأمور ولقد «استوى» العدس.. فسقوط تمثال حافظ الأسد يعني سقوط هذا النظام الذي أقامه صاحبه بعد رحلة تصفيات طويلة لـ«رفاقه» وبعد مسيرة تآمرية لا يعرفها إلاَّ الذين اكتووا بنيرانها من بعثيين ومن سوريين ولبنانيين وفلسطينيين.. وأيضاً من أردنيين وعراقيين.
والسؤال الآن ونحن نرى كل هذه المآسي التي تسحق سوريا سحقاً هو :هل كان ضرورياً يا ترى أن يتحول حكم يقول إنه «بعثي» وإنه تقدمي وثوري إلى حكم وراثي..؟ وهل كان ضرورياً يا ترى أن تختطف الإنقلابات العسكرية، التي بلغ عددها من إنقلاب حسني الزعيم في مثل هذا الشهر من عام 1949 وحتى إنقلاب حافظ الأسد في عام 1970 اثنا عشر انقلاباً، هذا البلد العربي العظيم من تجربة ديموقراطية كانت واعدة وكان بالإمكان أن تنتقل عدواها الحميدة إلى العديد من «الأقطار» العربية إلى كل هذه المذابح المتلاحقة وإلى كل هذا الدمار والخراب وإلى إنعاش طائفية بغيضة ومرفوضة كانت على الأقل نائمة فها هي تستيقظ لتعيد منطقتنا إلى ذلك الصراع المذهبي بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية