كل الانقلابات العسكرية، التي ضربت معظم دول المنطقة والتي ادعى أصحابها أنها ثورات تقدمية ووحدوية، نادت بالوحدة العربية الشاملة ومن المحيط إلى الخليج وتعهدت بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وبمياه إقليمية حتى جزيرة قبرص التي اعتبرها أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي نجمة الهلال الخصيب الذي دعا إليه على اعتبار أنه يشكل كتلة جغرافية وديموغرافية متكاملة ومتجانسة وموحدة.
لقد عاش هذا الجيل الذي أنتمي «أنا» إليه أحلاماً وردية وجميلة وكانت هناك قناعة عززها هدير الإذاعات الانقلابية بأن الوحدة العربية الشاملة باتت في متناول اليد ولقد كانت خلافات البعثيين مع الناصريين والقوميين الآخرين أنهم كانوا يريدونها وحدة فورية ولكن ما لبثت هذه الأحلام الجميلة أنْ بدأت تتحول إلى كوابيس مرعبة عندما انهارت الوحدة السورية-المصرية «الجمهورية العربية المتحدة» قبل أن تكمل العام الثالث من عمرها حيث قضى عليها انقلاب قاده مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر الذي كان عُيِّن مندوباً سامياً في سوريا وهو عبد الكريم النحلاوي الذي أيده في انقلابه هذا بعض أكثر الذين كانوا مؤيدين لهذه الوحدة والذين ألزموا جمال عبد الناصر بأن تكون سريعة وغير مدروسة.. وهنا فإنه لا ضرورة لذكر الأسماء لأن ذلك التاريخ محبط ومُوجِعٌ للقلب.
والآن وعندما ننظر نحن الذين أشتعلت رؤوسنا بالشيب إلى هذا الوطن الذي كنا نحلم بتوحيده من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر وكانت يومها أعناقنا ترتفع إلى السماء عندما نسمع أم كلثوم تصدح «أمجاد ياعرب أمجاد» وعندما كان صوت لودي شامية يهز صباحات غوطة دمشق :
من قاسيون أطلُّ يا وطني
فأرى دمشق تعانق السُّحب
آذار يدرج في مرابعها
والبعث ينثر فوقها الشهـب
نحن من الجيل الذي كان يغني مع يوسف الخطيب:
وصدى البشير يهزني طرباً
إنَّا أعدنا القدس والنقب
ياللحسرة!!
لقد رحلت تلك الأحلام الجميلة وها هو العراق «يتفزر» أمام أعيننا وتنتصب فيه الخنادق الطائفية المتقاتلة جبهة في الأنبار وجبهة أخرى في الناصرية وأيضاً في مدينة الثورة في بغداد وها هو الشعب العراقي العظيم الذي كنَّا وربما مازلنا نعتبره أول مداميك الوحدة العربية المرتقبة يتقاتل مذهبياً بتعبيرات لم يكن يعرفها جيلنا البائس، الذي أمهلته الأيام حتى يعيش كل هذه الخيبات وحتى تُفتِّتَ أكباد أبنائه كل هذه المرارات،..لقد إكتشفنا ان هناك في العراق «رافضةً» و»نواصب» وأن الحسين الذي جاء من مدينة جدة في الحجاز رافعاً راية الوحدة أصبح رمزاً للفرقة والتنابذ والتقاتل.
هل كان أيٌّ من أبناء هذا الجيل الذي غدت رؤوس من بقي منه تشتعل بالشيب يتوقع أن يرى سوريا تأكل نفسها على هذا النحو ويرى أنها تتشظى طائفياً بهذه الطريقة المرعبة..ثم وهل كان أيٌّ من أبناء هذا الجيل يتصور حتى مجرد تصور أن يصبح رموز الماركسية والماوية في الجنوب اليمني، الذي كان إسمه الجنوب العربي، أتباعا للوليِّ الفقيه في طهران وللصفويين الجدد الذين يحاولون إستعادة التمدد الفارسي القديم في هذه المنطقة العربية.
إن هذا الذي يجري في الوطن العربي إذا نظرنا إليه من زاوية اللحظة الراهنة يجعلنا نطأطئ رؤوسنا أمام الأمم الأخرى فمصر المحروسة، حماها الله، باتت على حافة الإنهيار..والسودان حدِّث ولا حرج والعراق غدا خنادق طائفية متقابلة متقاتلة إستناداً لخرافات تاريخية مفتعلة وغير صحيحة...أما سوريا..فيا حسرتنا على دمشق وغوطتها وعلى حلب الشهباء وعلى حمص خالد بن الوليد وعلى حماه وعلى بلد كان أول من إستجاب لصرخة الوحدة العربية التي أطلقها من بطحاء مكة الشريف حسين أمطر الله تربته المقدسية بشآبيب رحمته..ويا حسرتنا على لبنان وعلى ليبيا ويا حسرتنا الكبرى على فلسطين التي ننظر إليها عن بعد كل يوم ولعجزنا لا نستطيع ان نعطيها إلا عيوناً باكية وتأوهات تُقطِّعُ نياط القلوب..إنه وطن «يتفزر».. كنا نحلم بأن تكون رايته واحدة ونبضات قلبه موحدة وحاضره واعدا ومستقبله زاهرا!!.
عن الرأي الأردنية