السَّرِقَة
التاريخ : 21-03-2013 |
الوقت : 10:57:56
"السَّرِقَة" مذمومة، وفِعْل مشين، وجريمة يُعاقَب عليها مرتكبها، عقاباً قانونياً، ويُعاقَب عليها (في الدِّين) عقاباً إلهيِّاً (في "الآخِرة" على وجه الخصوص). ولقد أجْمَع البشر، في كل زمان ومكان، على تجريم وتحريم واستقباح "السَّرِقَة"، ولَعْن السَّارِق، وعلى تغليظ عقوبة السَّرِقَة، متوفِّرين، دائماً، على إعداد كل ما يَلْزَم من عدة (مادية، وفكرية، وأخلاقية، وثقافية، وتربوية) لمحاربة "السَّرِقَة"، ودَرْء مخاطرها وشرورها عن المجتمع؛ وإنَّنا لنرى في الأماكِن التي تتركَّز فيها أموال الناس، أيْ المصارف، تَرَكُّزاً لا مثيل له، كلَّ ما يَلْزَم من عِلْمٍ وتكنولوجيا وخبرة وذكاء للوقاية من السَّرِقة، ومنعها؛ فلا حِماية، في الدول، أقوى وأشد وأكفأ وأذكى من حماية هذه "السُّدود المالية"؛ ولا غرو في ذلك؛ فالمال (ذَهَبَاً وعملة دولية أو قومية) هو "القوَّة بكل أوجهها وصورها"، وبواسطته نحصل على كل شيء تقريباً؛ فالأشياء التي لا يمكننا الحصول عليها بالمال (في عالَمٍ سَلَّع كل شيء، وتسلَّع فيه كل شيء، تقريباً) ضئيلة متضائلة. و"السَّرِقَة" كالمُثَلَّث، لها ثلاثة أضلاع: "السَّارِق"، و"المسروق (أيْ الشيء الذي سُرِق)"، و"المسروق منه (ذاك الشيء)". ولـ "السَّرِقَة" مبتدؤها التاريخي والمنطقي؛ فالشيء (أكان مالاً أم غير مالٍ) لا يصبح في حال، أو صفة، "المسروق" إلاَّ إذا كان مملوكاً ملكية شخصية أو جماعية (خاصَّة أو عامَّة) شرعية وقانونية؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "المسروق" هو شيء (مال على وجه الخصوص) انتقلت ملكيته، بالاغتصاب، من يد صاحبه الشَّرْعي القانوني إلى يد مُغْتَصِب، بصرف النَّظَر عن الدَّوافِع التي دفعته إلى اغتصاب هذا الشيء (الذي قد يكون رغيف خبز). إنَّهما أمْران لم يتوصَّل عِلْم الاجتماع بَعْد إلى فَهْمهما وتفسيرهما بما يَرْفَع منسوب "العلمية" في هذا "العِلْم"، وهما: "الملكية الخاصَّة" و"السَّرِقة". أقول هذا، وأقول به؛ لأنْ لا شرعية (من وجهة نظر التاريخ والمنطق) في "الملكية الخاصة" إذا ما خلت من نقيضها، وهو اللاشرعية، ولأنَّ اللاشرعية في "السَّرِقة" لا يمكن أنْ تخلو من الشَّرعية. تاريخياً، وفي القارة الأوروبية على وجه الخصوص؛ وهذا أمْرٌ ينبغي لعلم الاجتماع ألاَّ يغفله، أو يضرب عنه صفحاً، رَأَيْنا السَّرِقة (أو الاغتصاب) هي الأصل والأساس في "التراكم الأوَّلي" لرأس المال؛ فبوسائل وطرائق غير شرعية، وغير قانونية، انْتُزِعَت أراضٍ وممتلكات من أيدي أصحابها الشرعيين (من الفلاحين) لتُصْبِح ملكية خاصة (شخصية) شرعية وقانونية للرعيل الأوَّل من الرأسماليين الصناعيين؛ ثمَّ انتقلت ملكية رؤوس الأموال هذه من الآباء إلى الأبناء بالوراثة؛ وهذا ما جَعَل من الصعوبة بمكان النَّظَر إلى أموال وممتلكات الرأسمالي الابن الوريث على أنَّها غير شرعية، وغير قانونية؛ فـ "الأصل" و"المبتدأ" ضُرِب عنهما صفحاً لإظهار الرأسماليين الورثة على أنَّهم "الفضيلة". ونحن يكفي أنْ نَقِف على هذه الحقيقة التاريخية حتى يتأكَّد لنا أنَّ رأس المال قد أتى إلى الدنيا وهو مُضَرَّج بالدِّماء، وأنَّ تاريخه هو تاريخ تَحَوُّل اللاشرعي إلى شرعي. حتى وهو يلبس لبوس الشرعية تَبَايَن وتَضَارَب فَهْم ماهيته؛ فإذا كان برودون قد فَهِمَ الملكية الرأسمالية على أنَّها "سَرِقَة"، فإنَّ ماركس اسْتَسْخَف هذا الفهم، معتبراً الملكية الرأسمالية أداةً (أو وسيلةً) للسرقة؛ لأنَّ رب العمل، أو الرأسمالي، ومن طريق تملكه المصنع يغتصب اغتصاباً جزءاً من "القيمة الجديدة" التي خلقها العامل؛ وهذا الجزء هو ما أسماه "فائض القيمة (أو القيمة الزائدة)"، أيْ القيمة التي تزيد عن قيمة قوَّة العمل، والتي يُعبَّر عنها نقدياً بـ "الأجر". من "السَّرِقة"، بمعناها الحقيقي لا المجازي، وُلِدَ رأس المال (فتراكمه الأوَّلي أتى من طريق السَّرِقة والاغتصاب). وبصفة كونها "أداة للسَّرِقة"، شَرَعَت "الملكية الرأسمالية" تُنمِّي رأس المال. من قَبْل، رَأَيْنا اللاشرعي يتحوَّل إلى شرعي؛ وها نحن نرى الآن الشرعي يتحوَّل إلى لا شرعي؛ لأنَّ الملكية الرأسمالية، التي ما عادت بـ "سَرِقة"، غدت "أداةً للسرقة". كان ينبغي لعلم التاريخ أنْ يساعد علم الاجتماع في التوصُّل إلى فَهْم "التراكم الأوَّلي" لرأس المال على أنَّه نُتاج السَّرِقة والاغتصاب (ولو في جزء منه). وكان ينبغي لعلم الاقتصاد السياسي أنْ يساعده في التوصُّل إلى فَهْم "الملكية الرأسمالية" على أنَّها "أداة للسرقة"، وإنْ غدت (هذه الملكية) في نظر الناس والقانون شرعية، لا يخالطها شيء من جريمة السَّرِقة. أمَّا السَّرِقة التي نَعْرِف، أو السَّرِقة بمعناها المعتاد والمألوف، فيجب أنْ يُعامِلها قانون العقوبات (وفي جانبه الرَّدْعي)" على أنَّها درجات، أو دركات؛ فالعقوبة يجب أنْ تراعي "الدَّافِع"، و"المسروق"، لجهة حجمه ونوعه، و"أداة (وسيلة، أسلوب، طريقة) ارتكاب جريمة السَّرِقة"، و"النتائج (والعواقب)" المترتبة على ارتكاب هذه الجريمة؛ فسارق رغيف خبز هو كمثل مرتكب خطأ "1+1=3"؛ أمَّا سارق المال العام فهو كمثل مرتكب خطأ "1+1= قرد"؛ فشتَّان ما بين الخطأين، وشتَّان ما بين الجريمتين.
|
|
jawad.albashite@alarabalyawm.net |
عن العرب اليوم
|
تعليقات القراء
لايوجد تعليقات على هذا الخبر
أضف تعليق
|
أخر الأخبار
اقرأ أيضا
استفتاءات
تابعونا على الفيس بوك
|