أليست هي "السرقة" بعينها ما تتعرَّض له الآن أموال كبار المودعين في بنك قبرص؟!
كُلٌّ من هؤلاء المودعين، وإذا كان حجم المال الذي أودعه في البنك المركزي القبرصي، يَرْبو على 100 ألف يورو، قد يَفْقِد (يَخْسَر) نحو 60 في المئة من مدَّخراته.
الغاية "نبيلة"، ولو في ظاهرها على الأقل؛ وهي "الإنقاذ"، إنقاذ "جزيرة أفروديت" من أزمتها المالية؛ ولقد وُضِعَت (وَضَعها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي) لهذا "الإنقاذ" خطَّة، قيمتها 10 بلايين يورو؛ وينبغي لقبرص ("فأر المختبَر"؛ فهي أوَّل دولة في "منطقة اليورو" تَعْرف هذه القيود على المودعين، وتُجْرى فيها هذه التجربة "الإنقاذية") أنْ تَجْمَع 5.8 بليون يورو؛ وتوصُّلاً إلى ذلك، فُرِضَت ضريبة، تُدْفَع مرَّة واحدة فقط، على أموال كل المودعين في البنوك القبرصية، تبدأ من 6.75 في المئة على أصغر المودعين، ووُضِعَت قيود على رأس المال (الودائع) لمنع المودعين من سحب أموالهم إلى خارج الجزيرة، وحُوِّل 37.5 في المئة من كل وديعة تَرْبو على 100 ألف يورو إلى "أسهم"؛ ولن يَدْفَع البنك فوائد على 22.5 في المئة من الوديعة؛ أمَّا المتبقِّي منها، ونسبته 40 في المئة فسَيَدُرُّ فائدة؛ لكنها لن تُصْرَف إلاَّ إذا تحسَّن وضع البنك.
وإذا كانت "الغاية" تُسوِّغ "الوسيلة"، ولو كانت "السرقة"؛ فكيف لها ألاَّ تُسَوِّغها وهي تتسم ب "النُّبْل"؟!
إنَّه "جَرَس إنذار"، وقد دُقَّ، فتناهى هذا "الخبر المشؤوم" إلى أسماع المستثمرين في العالم كله، وليس في "منطقة اليورو" فحسب؛ فهو "حلٌّ إنقاذي" يمكن تعميمه، واللجوء إليه في كل دولة (رأسمالية، على افتراض أنَّ بعض دول العالَم لا يَعْرِف اقتصادها الرأسمالية) تَعْصِف بها أزمة مالية؛ وينبغي لها، من ثمَّ، أنْ تمثِّل المصلحة العامة لطبقة الرأسماليين، وتَجْعَل لها الغلبة، وفي أوقات الضيق والشدَّة على وجه الخصوص، على مصالح أفراد، أو فئات صغيرة، من هذه الطبقة، التي "تَعَوْلَمَت" بما يجعل من الصعوبة بمكان تمييز وفَرْز "القومي" من أعضائها، أو أفرادها، في كل دولة.
المستَثْمِرون هؤلاء؛ والكبار منهم على وجه الخصوص، هُمْ من الفئة الطفيلية من الرأسمالية، ولهم من الخواص الاستثمارية ما يجعلهم "أرستقراطية مالية"؛ وهؤلاء الذين لم يفيقوا بَعْد من صدمة تبخُّر الأموال الطائلة التي استثمروها في البورصات العالمية، أيْ في أسهمها وأوراقها المالية، ولم يستجمعوا بَعْد في نفوسهم من الجرأة ما يكفي لاستئناف هذه اللعبة الاستثمارية، والتي هي أقرب إلى لعبة القمار منها إلى الاستثمار، أَلَمَّ بهم هذا المصاب الجديد الأليم على حين غرة، ومن حيث لا يحتسبون؛ فحتَّى "الودائع (المصرفية)" ليست بمأمنٍ من خطر التبخُّر، والذي هو الآن كناية عن "السرقة الشرعية (القانونية)"، ترتكبها "الدول"، ويحرِّض عليها، ويُبشِّر بها، "الاتحاد الأوروبي" مع صندوق النقد الدولي.
وإنِّي لأقترح أنْ يتَّخِذ كل بنك مركزي، من الآن وصاعداً، شعاراً له "كل ما يَدْخُل إليه (من أموال) مفقود، وكل ما يَخْرُج منه (إذا ما استطاع إلى الخروج سبيلا) مولود!"؛ فوديعتكَ، التي تَرْبو على 100 ألف يورو، يُقْتَطع منها جزء على شكل ضريبة تذهب إلى خزينة الدولة، ويُحوَّل جزء ثانٍ منها، ومن غير أخذ رأيكَ أو موافقتكَ، إلى "أسهم"، وجزء ثالث يستثمرونه من غير أنْ يدفعوا لكَ فائدة، وجزء رابع (وأخير) يستثمرونه مع احتمال أنْ يَدْفَعوا لك فائدة؛ فهذا الدَّفْع مشروط بتحسُّن وصع البنك؛ أمَّا معبودهم الأوَّل، وهو "حرية الاستثمار"، أو "الاستثمار الحُر"، فجعلوه عَبْداً لهم، ولمصالحهم؛ فلا يحقُّ لكَ أنتَ المودع أنْ تسحب أموالكَ (لاستثمارها في الخارج، أو حيث ما زال للاستثمار الآمن بقية من وجود) فهذا السَّحْب، الذي يستبدُّ بمن لهم مصلحة فيه الشعور بالذعر والهلع، قد يجعل "خطة الإنقاذ" طريقاً، هي الأقصر، إلى "الهاوية (المالية والاقتصادية)"، والتي ربَّما لا يكون لها قرار.
في البورصات العالمية، أيْ في أسواق الأسهم والأوراق المالية، دارت عليهم الدوائر، فوقعوا في شِرِّ هذه اللعبة الاستثمارية، حتى أنَّ كثيراً من هؤلاء المستثمرين الطفيليين أصبحوا ينظرون إلى البورصات على أنَّها أشبه ما تكون ب "دار الفناء (لأموالهم)"، فشرعوا ينزحون مع رؤوس أموالهم إلى ما ظَنُّوه "دار البقاء"، فركَّزوا في المصارف جزءاً عظيماً متعاظِماً من فوائضهم المالية على شكل ودائع؛ لكنَّ الأزمة المالية والاقتصادية (الرأسمالية) العالمية ما أنْ أجهزت على ثقة المستثمرين بالبورصات حتى يَمَّمَت وجهها نحو الجهاز المصرفي الذي هو القلب النابض للرأسمالية؛ فكيف لأصحاب الفوائض المالية (المؤقتة، أو الدائمة) أنْ يضخُّوها في أنابيب الاقتصاد (والاقتصاد الحقيقي على وجه الخصوص) بواسطة الجهاز المصرفي إذا ما شرعوا يفقدون الثقة به، وإذا ما عَلَّمَتْهم تجربة الاستثمار في المصارف أنَّ حرِّيتهم في الإيداع يُقابلها فقدانهم الحرِّية في السَّحب، وأنَّ "سوائلهم المالية" هذه عُرْضَة للتبخُّر؛ لأنَّ البنك أصبح مَرْجِلاً تَغْلي فيه "السوائل المالية" بنار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية؛ وإذا لم يكن للتجربة من أهمية إذا لم يخرج منها المرء بالدروس والعِبَر المفيدة، فإنَّ المستثمِر من هؤلاء قد يتحوَّل كفره بالبورصة والبنك إلى إيمان بأنَّ اختزانه المال "تحت البلاطة" خيرٌ وأبقى؛ ولكم أنْ تتخيَّلوا ماذا سيَحِلُّ بالنظام الرأسمالي إذا ما أصبح اختزان الفوائض المالية "تحت البلاطة" خير عقيدة استثمارية!
عن العرب اليوم